قصة قصيرة:
سندريلا .. خارج الحكاية..!!
الاثنين 25 أغسطس 2025 الساعة 17:08
الحكمة نت - خاص:

بقلم: وردة عوض بلسود
كنت جاثمة في واحدة من زوايا بيتنا المتواضع، أصارع الدقيق، محاولة عجنه بيدي الصغيرتين مثل فارس في ساحة حرب صامتة، أصمم «رقائق السنبوسة»، ثم أحشوها بشرائح البصل والبطاطس والجزر، لتصبح جاهزة لمصيرها في زيت مغلي، الذي بدوره يحولها الى لقيمات هشة وشهية .. يبيعها والدي في المساء، دون أن أعرف ما يخبئه الليل من حلاوة المكسب، فليس ذلك من شأني .. أعمل بصبر يذيب الساعات، لا يثمنه أحد، ولا يكافئ حتى بإبتسامة رضى .. وأخيط من حياة النهار ثوباً من تعب لا لفظ له، فقلبي يسكب كل همومه على راحتين لا تعرفان الراحة.

أمي كانت لي حمى وملاذاً، حضناً دافئاً ووهج كلمة، لكنها اليوم تتغير، صارت أكثر جفاء وبروداً، تكرست حدتها بعد قدوم أختي الصغيرة، حتى المدرسة أخرجتني منها، فأنا الآن حبيسة الدار، لا صديق لي سوى الذكريات البعيدة.

كنت يوماً في قمة ما يعتمل في داخلي من أسى، فإذا بالضوء ينسل من النافذة خجولاً، يلثم أصابعي المغبشة بالدقيق، وكأنه يهدهد جرحي الخفي، فلم أستطع إلا أن أمسح دمعاً خفياً، وأتجه إلى النافذة.

تطل النافذة على مزرعة تتكلم عن فرحة معلقة في الأغصان، أراقب الأشجار وهي تهمس لي، يباركني نسيم يطوي طرحتي العتيقة، ويجفف ما بقي من دموعي .. اغتسلت بأنفاسي العميقة، وأغمضت عيني طويلاً، فإذا بي أرى حلماً عجيباً: حصاناً أبيض كاللبن، يجري برشاقة السحاب، يمتطيه أمير تتلألأ عيناه كنجمين، يقول لي: «أيتها الأميرة، آن لك أن تصعدي معي إلى المملكة، إلى قصر مشيد على الحلم، وإن كانت الحياة قد ملأت يديك بالدقيق، فإننا نعيد دهنها برائحة الورد والمسك» .. حاولت أن أرد إلا ان التأتأة التي اعانيها، حالت دون ذلك، حيث صدرت مني كلمات مرتعشة بين حفيف الشجر ونبضات القلب.

صوت جاف، كسياط في ساحة صبر، يؤز في أذني: «سهيلة!» التفت وانا في حالة من الفزع، أردت أن أبرر، فإذا بأمي تغادر المكان وقد ملأها الضجر وتفهمني بما لا يقال، ترك ذلك في نفسي جرحاً ينز، فانهمرت دموعي سراً، حيث لم يكن هناك من أحد يصغي سوى الظل.

عاد الليل، ليسدل عليّ رداءه الأسود من جديد، وكأنه يكفنني، أنصت لأزيز الحزن من جديد، وأسمع زفير الحلم البعيد، بينما الجميع في الغرف المجاورة يمرحون، أخوض وحدي معركة مع كوابيس المنام، ولا أستيقظ إلا على صوت أبي وهو يدعوني إلى الصلاة، قصداً أو عفو الدقائق..

الصباح يفرش أجنحته، أبدأ العمل كالعادة، وفيما أنا أفتح دفاتر الصباح برقائق الدقيق والحياة .. فإذا بالباب يطرق والقلب ينقبض، تقول أمي: «افتحي الباب يا سهيلة!» أبعد ما علق بيديا من دقيق وعجين، وأذهب برجلين تتعاقبان بين التوثب والخوف، فإذا هي الجارة «خديجة» تبتسم لي وتباشرني بكلمات كالعسل: «صباحك جميل يا أجمل عروس في القرية، وأين والدتك؟» أشير لها إلى المجلس، ثم تتبعها أمي، بعد أن تركت أختي «عبير» عندي، الطفلة التي ملأت الفراغ بصوت الضحك البريء .. لعبت معها قليلاً، لكنها باغتتني وجرت مسرعة نحو المجلس، وعندما لم أستطع إيقافها، انتابتني حالة الخوف من عواقب ذلك .. اقتربت من الباب، وبقيت واقفة، أنتظر تعليمات أمي.

تناهت الى مسامعي كلمات تنساب من تحت الباب كأنها سيوف لا ترحم:
- الجارة خديجة: «إنها جميلة ومؤدبة، وتحب العمل».
- أمي: «أيعلم العريس هذا الذي تتحدثين عنه بعيوبها؟».
- الجارة خديجة: «أي عيوب يا فاطمة؟! ما أرى إلا فتاة في الثامنة عشر، قمة في الجمال والذكاء والحنكة، والرجل في الأربعين من عمره، لكن لديه أطفال».
- أمي: «هل نسيت يا خديجة؟ سهيلة لقيطة، وبصراحة أنا الآن أحتاج لها للقيام بعمل البيت بدلا عني، لأن إهتمامي وحبي اصح الآن مكرس للطفلة التي أكرمني بها الله».
- الجارة خديجة: «حرام عليك .. هل نسيت أنك من تبنيتها وجعلتها ابنتك؟».
- أمي: «لا لا لم أنس .. لكن الوضع تغير من بعد أن أصبح لدي ابنة من لحمي ودمي .. وسهيلة كبرت وأصبحت الآن في منزلة خادمة عندنا».

صعقتني كلمات أمي تلك، وادخلتني في دوامة من الحزن المميت، شعرت بالدماء تتجمد في عروقي، فيما جسدي راح يرتجف بشكل لا اردي، عيوني كأنها ينابيع أضنتها القسوة، دلفت الى المجلس، أوزع نظراتي المذهولة، بين جارتنا وأمي، أردت أن أصرخ، لكن لا صدى إلا في صدري .. رمقتني أمي بنظرات سخط وقالت بصوت يحمل من القسوة الكثير: «منا بك ايها البلهاء؟! كيف تجرأت على التنصت علينا؟! .. عودي الى المطبخ اكملي عملك».
لكنني لم اكن ادرك ما تقول حيث بقيت متسمرة في المكان اتأملها دون حراك وفجأة صرخت أمي: «قلت هيا تحركي اكملي عملك .. واذا لم يعجبك ما سمعتيه اخرجي من هذا البيت فوراً .. وليس هناك من داعٍ لتغضبيني أكثر!» .. تراجعت الى الخلف بصمت، وبعد تفكير اخترت البقاء خادمة.

مرت الايام رتيبة مملة قاتلة وانا اراوح في ذات الدوامة، اعمل طوال النهار بصمت حد الانهاك ..  وفي الليل اعود الى مهجعي أبكي، واندب حضي .. واحيانا اسرح مع الخيال وانا احدق في الافق من النافذة، باحثة عن ملامح الأمير الذي سيأتي لانقاذي، فلا أجد إلا إصرار الليل على إبهام بلا حدود، أسأل نفسي: من أعاتب؟ من أحاسب؟ هي الحياة التي رمت بي بين أحضان من لا يملكون رحمة، أم هي الأقدار التي اجتمعت لتجعل مني «سندريلا» بلا قصة، ودونما حصان أو أمير..

وذات يوم وفيما انا افتح النافذة لأعاين السماء، فوجئت ائر يمر بالقرب مني، فقلت في نفسي: «ربما هذه علامة تنبهني الى مجيء الأمير الذي سيأتي الآن، ليمسك بيدي ويقول: تفضلي ركبي الحصان أيها اليتيمة، ثم ينطلق بي مسرع الى قصرة البعيد عن هذا المكان الذي اصابني بالسأم» .. وفيما انا غارقة في ذات الحلم تذكرت أن هكذا قصص تظل مجرد اساطير تحكى فقط قبل النوم، ولا علاقة بالواقع .. وهنا ايقنت أن «سندريلا» تبقى حكاية للأطفال، وأن لقيطة مثلي مهما كبرت وأشرقت بحسنها ومفاتنها وذكائها .. فإن حضها من السعادة والبهجة والفرح يبقى منعدماً.

متعلقات