
بقلم: ورده عوض بلسود
كان الحفل يموج بالضحك والضوء، والأغنيات تتراقص في الفضاء كشرائط حريرية ترفرف في مهب مزاج ملوّن .. جلست بينهن، لكنني لم أكن منهن .. كنت كزهرة فُجئت بالربيع ولم تتهيأ له .. عيون النسوة لا تكتفي بالنظر، بل تتسلل إليّ كأنها تفتش في خبايا اسمي، تقلّب أنساب عائلتي كأوراق مبللة على طاولة قيلولة.
أغمضت نصف عيني، ووقفت .. تركت الجسد ينقاد للموسيقى، بخطوات مائلة بين الحياء والخيلاء، كأنني أحاول الرقص لا للمتعة، بل لأخدع المرايا .. شعرت للحظة أنني نجمة تتكوّر في مجرة من الضوء، ونسيت العيون التي تترصدني كسهام ساكنة.
ثم جاءت .. الرائحة .. زحفت ببطء أول الأمر، كهمسة خافتة في الهواء .. لكنها سرعان ما تجلّت بكل عنفها، كأن المكان انفتح على صدع مجهول، وأفرغ منه تلك النفحة - خامجة، ساخنة، تتشبث بالصدر وتمنع الهواء، اختنق الحفل، تجعدت الموسيقى، وتهدلت الوجوه.
ارتديت نقابي وخرجت مسرعة، أخبئ وجهي، وكأن الرائحة تتبعني، لا تريد أن تبتعد .. فيما خطاي تتثاقل في دهاليز الليل، حتى تراءى لي منزلنا المضيء بدا فاتحاً ذراعيه لي .. فتحت البوابة ودخلت، ثم تسللت إلى غرفتي، ألقيت بجسدي على السرير، ثم أغمضت عيني لأغلق خلفي كل الأبواب.
ورفات كتبي المدرسية التي لم أنجزها بدت ترمقني بعيون متسائلة .. تصفحت بعضها لعل مضامينها تعيد لي شيئاً من الهدوء .. لكنه لم يكن هناك .. بل كانت هي .. أخذت نفساً عميقاً كمن يبحث عن دفء مفقود، ولكن الرائحة تسللت لتملأ غضاريف صدري، فانتفضت في سعال شديد .. ثم نهضت على مضض، والبيت يضيق، يتقلص من حولي، كأن كل جدار أصبح رئة ضيقة.
في المدرسة، كنت الوحيدة في الفصل، أسبح في بحر الأسئلة التي لا أفقهها .. وفجأة تداهمني الرائحة من جديد، وهذه المرة بدت أكثر حدة، كأنها تتسرب من كل التفاصيل.
قفزت باتجاه النافذة .. فتحتها بكل قوتي .. الهواء دخل، لكنه لم ينقذني .. عاودت السعال حتى خارت قواي .. ثم أسقطت رأسي على الكتاب، وبللته بدموعي التي لم أشعر أنها انهمرت.
كانت الأستاذة تقف في مقدمة الفصل شبه مذهولة، تهمّ بالحركة ثم تتجمد .. وفجأة خرجت مسرعة، لتعود بعد لحظات ومعها المديرة .. اصطحبوني في سيارة الإسعاف إلى مشفى المدينة الخاص .. غرفة بيضاء، روائح غريبة، أجهزة تومض، وأطباء يلتفون حولي كأشباح والقلق يعتريهم .. حلّ عليّ الصمت بعد حقنة مهدئة، وظننت أن الليل قد أرخى سدوله .. من جديد شعرت براحة زائفة، كمن وضع رأسه أخيراً على حجر ناعم، لا يعلم إن كان قبراً أو وسادة.
من جديد شعرت بها تداهمني - نعم إنها ذات الرائحة، وهذه المرة لا برودة فيها، بل حر متوهج، كأنها أنفاس جحيم صغير .. تقدّمت نحوي، صفعتني .. كان الأوكسجين ثقيلاً، ووجه السماء أبيضاً .. تساءلت ترى هل أصدرت الحياة قرارها بحقي؟! هل أنا على حافة الغياب فعلاً؟!.
نهضت بأنفاس ممزوجة بالعتاب: «لن أموت هنا .. سأعود إلى حيث الدفء الحقيقي» .. قلتها بداخلي .. ثم انتصبت واقفة .. قدماي تجرّان ما تبقى مني .. اقتربت من الباب .. لا أعرف إلى أين، فقط أعلم أنني لا أنتمي إلى ذلك البياض.
ترنمت في أذني كلمات أبي من خلف الباب: «هيا يا بنتي .. ضعي باقي البطاطا في المقلاة قبل أن ينزل الطلاب .. وانتبهي من الزيت».
كان صوته واضحاً، دافئاً، حقيقياً .. فيما كانت الرائحة تملأ المكان، لكنها لم تعد تخنقني .. لم تعد تطبق على صدري .. بل إنها بدت لي مألوفة، كأنها جزء من بيتنا، من طفولتي، من طعام المساء في شتاء قديم.
رفعت رأسي .. لا مشفى، لا غرف بيضاء .. فقط مطبخ، وزيت يتقافز على نار، وصوت أبي في الخلفية .. تنفست ببطء، تداخلت رائحة المطبخ الدافئة مع أنفاسي، وتغلغلت إلى قلبي قبل رئتي، لتوقظ فيّ ابتسامة الأمان المسحور.
- المقالات
- حوارات