
قصة قصيرة .. بقلم: ورده عوض بلسود
دائماً ما أتسلل بناظري إلى الأفق، فألمح عيناها تتجسدان ببحر من أسئلة خجولة، فيما يترأى لي شعرها كنهر أسود يسترسل على جبين مرمر شاحب .. حتى ثوبها البالي الأزرق، وذاك الشاطئ الذي شهد طفولتنا، ما زالا ينبضان فيَّ .. هناك كنا ننثر ضحكاتنا على الرمل، ونقتسم كسرة خبز يابسة .. كنت أرسمها على رمال البحر فتأتي الأمواج غادرة لتمحوها، فأعيد الرسم من جديد وأنا أضحك .. أيام من نور تحولت في غوار روحي إلى بركان من عشق صامت.
قررت هذا العام أن اضع حدا لهذا البركان .. فأنا الآن سلطان الإلكترونيات في «الشرق الاوسط»، أملك المال والجاه، لكنني أفتقد الحب والسعادة .. إذ ان سنوات الغربة نحتت على وجهي ما لم تنحته على وجهها هي .. فقد ظلت في مخيلتي نضرة كزهر اللوز، خجولة كندى الصباح .. لذلك سأقضي إجازتي هذه المرة بجوارها.
أرسلت لها عبر «واتساب»: "سآتي" .. فردت كعادتها: "الحمد لله .. تمام توصل بالسلامة" .. أعلم أن وراء هاتين الكلمتين بحار من الكلام، لكن الخجل يخنق صوتها .. اتصلت بصديقي «صادق»: "سأحضر بعد غد" .. ارتعشت نبرته بين الفرح والإرتباك .. ثلاثون عاماً من الغياب كفيلة بذلك.!
عندما غادرت كان اليأس ينهش قلبي وروحي .. فقد خطفوها مني وزوجوها لأحد الأغنياء، فشربت كأس الحزن حد الثمالة .. لكن أمل العودة اشتعل مجدداً عندما أخبرني «صادق» بموت زوجها، وأعطاني رقمها .. ولأنها الجسر إلى مدينتي، والأكسجين الذي صنع مني رجلاً .. قلت في نفسي: كفى فراقاً .. ثم حزمت حقيبة صغيرة، ذلك لأن رحلتي ليست إلا ذهاباً وإياباً بـ«عائشة».
هبطت بنا الطائرة في «المكلا»، فاحتضنني هواؤها كحبيب قديم .. كان «صادق» هناك في إستقبالي .. شعرت أن المدينة كلها تغمض عيونها لتلمحني! .. دخلنا الأزقة المحفورة في ذاكرتي .. بدت المدينة هادئة كالمهد، لكن بيوتاً جديدة تناثرت على حافتها كندوب.
"ما هذه الطوابير الطويلة؟" سألت «صادق» .. فأجاب بنبرة منهكة: "طوابير الحرمان يا «عائد»" .. طابور الخبز يلتف على طابور الغاز .. صرنا نعيش على طوابير من العوز والانتظار" .. قلت وأنا التفت إلى الماضي: "زمان كنا فقراء لكننا كنا نضحك، كنا سعداء" .. فأجاب وهو يحدق في الأرض: "الآن يا صاحبي الجميع يبكي من فرط الجوع والمرض .. نحتاج إلى قلب كبير يحتوينا".
"أتصل على «عائشة»"، قلت لـ«صادق» .. وقلبي يكاد يخرج من صدري .. اجابني: "جوالها مغلق" .. همست له: "كرر الاتصال" .. قال وهو يتجنب النظر اليًَ: "استرح الليلة .. وغداً يكون خير" .. ذهبت إلى فندق فاخر .. بيتنا القديم صار أثراً بعد أن خطف الموت خالي، الذي كان سندي الوحيد.
في صباح اليوم التالي، جلست في مقهى شعبي أشرب شاياً بالحليب .. الناس تسلم علي بحرارة تذكرني بأيام الصبا .. جاء «صادق» ورأيت ظلالاً تعبر عينيه .. حاول إقناعي بزيارة بيته، فقلت: "عائشة أولاً".
قال متردداً: "ما رأيك بالمدينة الآن؟" .. فأجبت بلهفة: "«عائشة» يا «صادق!»" .. التقط أنفاسه بعمق، ثم قال وهو يتلفت يمنة ويسرة: "«عائشة» آآآح يا صديقي مع الاسف أنا من أرسل لك تلك الرسالة باسمها .. ارجو ان تسامحني" .. نظرت اليه بذهول، وجمدت في مكاني .. "ماذا؟!"، همست وكأن سكينا تمزق قلبي.
أجهش بالبكاء: "ماتت مع زوجها في الحادث نفسه .. ماتت منذ سنوات!" .. تدافعت صورها في رأسي: الطفلة على الشاطئ، العروس المسلوبة .. ثم الفراغ .. ثقل رهيب خيم على جسدي، فترنحت وسقطت على الرصيف.
أمسك «صادق» بكتفي والدموع تغرق خديه: "سامحني .. المدينة تحتضر وتحتاجك .. انظر!" .. رفعني وأشار نحو طابور الخبز: "هناك طفلة تشبهها في عينيها، تحتضر من السرطان" .. ثم أشار إلى شاب منكسر: "وذاك خريج جامعتنا يبيع الأحلام على الرصيف!".
نظرت حولي: وجوه هزيلة، عيون جائعة، أنفاس متعبة .. في كل زاوية مأساة تنتظر غيثاً .. التقطت حفنة من تراب الشارع وقدمتها إلى شفتي .. همست والدمع يبلل التراب: "عدت إليك يا عروسي .. ولن أفارقك بعد اليوم .. أنت وهمي الجميل، ووجعي الصادق".
التفت إلى «صادق» وأنا أمسك بيده بقوة: "سأبقى يا صديقي .. لنفرز أحلام هذه المدينة من جديد".
- المقالات
- حوارات